أيام العشر نفحة ربانية.. يستقبل المسلمون في هذه الأيام موسمًا عظيمًا، وأيامًا فاضلة، رفع الله شأنها، وأعلى مكانها، وميزها على بقية أيام العام، وجعلها غرة في جبين الدهر، ألا وهي أيام العشر، أعني العشر الأُوَل من ذي الحجة.
هذه الأيام المباركة التي اختصها الله بمزيد من الشرف والكرامة، وجعلها ميدانًا للمنافسة في الخيرات، والمسابقة بين المؤمنين في مجال الباقيات الصالحات، وموسمًا عظيمًا للتجارة الرابحة مع الله.
وإن شرف هذه الأيام، أمر معلوم من دين الإسلام، وقد تواطأت نصوص الكتاب والسنة على التنويه بفضلها، والإشادة بمكانتها ورفعة قدرها، والإعلان عن تعظيم الله لشأنها، فقد أقسم الله بها تشريفًا لها، وتنبيهًا على فضلها فقال سبحانه: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 1-3].
والليالي العشر:
هي عشر ذي الحجة، كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد، وغير واحد من السلف والخلف. و"الوتر" قيل: هو يوم عرفة، لكونه التاسع، والشفع هو يوم النحر، لكونه العاشر. وهذان اليومان داخلان في الأيام العشر، ولكن الله خصهما بالقسم؛ اهتمامًا بشأنهما، وبيانًا لمزيد شرفهما، وأنهما أفضل أيام العشر، التي هي أفضل أيام الدهر.
وهذه الأيام العشر، هي الأيام المعلومات التي قال الله تعالى عنها: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 27، 28].
وإنما قيل لها معلومات: للحرص على علمها لأهميتها وعظيم شأنها، ولأن وقت الحج في آخرها.
أما السنة النبوية، فقد حفلت بنصوص كثيرة تدل على فضل هذه الأيام، وأنها أفضل أيام العام، وأن العمل فيها أعظم أجرًا، وأحب إلى الله، وأزكى عنده، وأحظى لديه من العمل فيما سواها من الأيام. يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"ما من أيام العمل الصالح فيهن، أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر". قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، ولم يرجع من ذلك بشيء"[1].
وروى الدارمي والبيهقي بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرًا، من خير يعمله في عشر الأضحى". قيل: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء". قال القاسم بن أبي أيوب: وكان سعيد بن جبير إذا دخل أيام العشر، اجتهد اجتهادًا شديدًا، حتى ما يكاد يقدر عليه.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل دلالة صريحة على أن عشر ذي الحجة، هي أفضل أيام السنة على الإطلاق، فإن الأيام في قوله: "ما من أيام" نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم، ثم إنها مؤكدة بـ"من" البيانية، وهي مزيدة لاستغراق النفي، فيكون المعنى: ما من أيام الدنيا أيام أفضل عند الله، ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر.
وقد صرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بقوله: "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد"[2].
ولأجل هذا اختلف العلماء: أيهما أفضل عشر ذي الحجة أم العشر الأواخر من رمضان؟
قال ابن كثير رحمه الله: "وبالجملة، فهذا العشر -يعني عشر ذي الحجة- قد قيل إنه أفضل أيام السنة، كما نطق به الحديث، وفضّله كثير على عشر رمضان الأخير؛ لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك من صلاة وصيام وصدقة وغيرها.
ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه، وقيل ذلك أفضل، لاشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. وتوسط آخرون، فقالوا: أيام هذا أفضل، وليالي ذلك أفضل، وبهذا يجتمع شمل الأدلة. والله أعلم".
وقال ابن القيم: "فإن قلت: أي العشرَين أفضل؟... فالصواب، أن يقال: ليالي العشر الأخير من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة، وأيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام عشر رمضان، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه".
والحقيقة أنه لا يهمنا كثيرًا، أي الأقوال أرجح؟ بقدر ما يهمنا أن ندرك فضل هذه العشر، وعظم شأنها عند الله تعالى حتى نحرص على اغتنامها، والمنافسة على الخير فيها. وبهذا نعلم مقدار ما نحن فيه من تفريط وإهمال، ومن غفلة عنها، وحرمان من خيرها ونفحاتها.
وإن المرء ليسر سرورًا عظيمًا حين يرى اجتهاد الناس في العشر الأواخر من رمضان واهتماهم بها، وحرصهم على اغتنام أوقاتها، ولكنه يعجب أشد العجب، حين يرى هؤلاء الصالحين أنفسهم، لا يحفلون بهذه الأيام المباركة، ولا يهتمون لها، ولا يجتهدون فيها كاجتهادهم في العشر الأخير من رمضانز
مع أن هذه الأيام أفضل من تلك الأيام كما سبق، فكانت جديرة بأن يهتم بها أكثر، وأن يحرص المؤمن على اغتنامها بشكل أكبر، ويستغل كل لحظة من لحظاتها فيما يقربه إلى الله تعالى ويرفع درجاته عنده.
وقد دلت الأحاديث السابقة على أن العمل الصالح في عشر ذي الحجة أحب إلى الله، وأفضل عنده من العمل نفسه لو عُمل في غيرها من الأيام، وأن العبادة فيها أزكى عند الله وأعظم أجرًا من العبادة نفسها لو فُعلت في غيرها من أيام العام.
فإذا تصدقت بمائة ريال في هذه العشر، فإنه أعظم أجرًا وأحب إلى الله من التصدق بهذه المائة في شهر شعبان أو رمضان أو شوال، أو غيرها، وإذا صليت ركعتين في هذه العشر فإنهما أحب إلى الله من ركعتين مثلهما تصليهما في غير هذه العشر. وعلى ذلك فقِسْ بقية الأعمال.
بل دلت هذه الأحاديث على أن العمل فيها، وإن كان مفضولاً، فإنه أزكى عند الله وأحب إليه من العمل في غيرها وإن كان فاضلاً، ولا أدل على ذلك من كون العمل فيها أعظم من الجهاد في سبيل الله الذي يتضمن قطف الرءوس، وإزهاق النفوس، وتقطيع الأعضاء، وإسالة الدماء.
والذي هو من أفضل الأعمال بل هو ذروة سنام الإسلام. فالعمل في هذه العشر، أفضل من سائر الأعمال في غيرها، وأفضل من أنواع الجهاد كلها إلا النوع الذي استثناه الرسول بقوله: "إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء".
قال ابن رجب: "وهذا يدل على أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره ويزيد عليه، لمضاعفة ثوابه وأجره".
وإذا كان الأمر كذلك، وعلمت -أيها المسلم- أن الله يحب العمل في هذه الأيام ويباركه ويزكيه، فحريٌّ بك أن تجتهد في هذه الأيام، وتحرص على اغتنام كل لحظة من لحظاتها، وأن تعمرها بأنواع الطاعات والقربات، التي تزيدك قربًا من ربك، وتكون سببًا لسعادتك ونجاتك في دنياك وآخرتك؛ فإن الأيام مراحل الآجال، ومخازن الأعمال، وليس لك -أيها الإنسان- من عمرك إلا ما قضيته في طاعة ربك.
واستودعته عملاً صالحًا تجده أحوج ما تكون إليه، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102، 103]. واحرص أن تكون أقرب الناس إلى الله، وأحبهم إليه، وأرفعهم منزلة عنده، وإن استطعت ألاَّ يسبقك إلى الله أحد فافعل، وإذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة.
وإن هذه المواسم الفاضلة لمن أعظم نعم الله على عباده، حيث تستحث هممهم وتشحذ عزائمهم للمسارعة إلى الخيرات، ومجاهدة النفس على فعل الطاعات واجتناب المنكرات؛ حتى تزكو نفوسهم، وترق قلوبهم، وتنجلي عنها تلك السحب الكثيفة من الغفلة والقسوة، وحتى تكون هذه الطاعات غذاء لأرواحهم، وأنسًا لقلوبهم، وسببًا لسعادتهم في دنياهم وآخرتهم. ولله در القائل:
يا خـادم الجسم كم تشقى لخدمته *** أتعبت نفسك فيما فيه خسرانُ
أقبل على الروح فاستكمل فضائلها *** فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ
ومما يدل على فضل هذه العشر: أن الله شرع فيها من الأعمال الجليلة الفاضلة ما لم يشرعه في غيرها من الأيام، وأنها تختص باجتماع أمهات العبادة فيها من الصلاة والصيام والصدقة والحج والتكبير والذكر والأضاحي يوم العيد.
ولا يتأتي ذلك في غيرها. ولهذا فإن إدراك المسلم لهذه العشر المباركة لمن أعظم نعم الله عليه، وواجبه استشعار هذه النعمة، واغتنام هذه الفرصة، وذلك بالاجتهاد في الطاعات والمسارعة إلى الخيرات.
وإن أفضل ما تقرب به العباد إلى ربهم: القيام بما افترضه عليهم، وأداؤه على الوجه الذي يحبه ويرضاه، يقول الله تعالى في الحديث القدسي: "من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه.
ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه"[3].
فينبغي لك -أيها المسلم- أن تحرص غاية الحرص على أداء الفرائض وإتمامها، وبخاصة الصلاة التي هي عمود الدين، وآكد أركان الإسلام بعد الشهادتين، ولا يكن حالك في هذه الأيام الفاضلة كحالك في غيرها من التأخر عن الصلاة وعدم التبكير إليها، أو التشاغل عنها، والغفلة عن التدبر والخشوع فيها، وهكذا في بقية الفرائض كبر الوالدين وصلة الرحم وأداء الحقوق الواجبة لله تعالى أو لأحد من خلقه.
وإن من الواجبات التي تتأكد في هذه الأيام: التوبة الصادقة النصوح، والتوبة واجبة في كل وقت، ومن كل ذنب كما قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. ولكنها في مثل هذه المواسم آكد وأوجب، وصاحبها أرجى بالقبول والإجابة، وأن تكفر سيئاته، وتُمحى زلاته.
وتقال عثراته، بل وأن تبدل سيئاته حسنات، فإنه إذا اجتمع للمسلم توبة نصوح، مع أعمال فاضلة، في أزمنة فاضلة كان ذلك عنوان الفلاح والتوفيق، قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67]. وقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82].
والتوبة بالنسبة للحاج أوجب عليه من غيره؛ لأن قبول حجه وتكفير جميع ذنوبه مشروط بالتوبة الصادقة، وترك الفسوق، والندم على ما فرط منه من الذنوب، والعزم الأكيد على عدم العودة إليها بعد انقضاء موسم الحج، قال الله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
والمعنى أن من دخل في الحج وجب عليه ترك الرفث والفسوق والجدال الذي لا طائل من ورائه، ولا مصلحة تدعو إليه. والرفث: هو الجماع ومقدماته القولية والفعلية، وهي من محظورات الإحرام. والفسوق: هو الخروج عن طاعة الله تعالى إلى معصيته.
ومن ترك المعاصي حال حجه وهو عازم على معاودتها بعد الحج، فإنه لم يتب توبة صادقة، ولم يترك الفسوق على الحقيقة، بل لا يزال متصفًا بالفسق؛ لأنه لم يتب حقيقة من الذنب، حتى لو قال: اللهم تبْ عليَّ واغفر لي؛ لأنه يعلن التوبة بلسانه ويكذبها بأفعاله، فهي توبة الكذابين، ونوع من الأماني والغرور، والله تعالى يقول: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123].
فلا يعد حجه مبرورًا، ولا يحصل له تكفير جميع الذنوب المذكور في قول النبي : "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه"[4].
والحاج يجتمع له ثلاث فضائل لا تجتمع لأحد غيره، وهي: فضل الزمان، وفضل المكان، وفضل الحال، فهو في عشر ذي الحجة التي هي خير أيام الزمان، وفي أطهر بقعة على وجه الأرض، حيث تضاعف الصلاة الواحدة بمائة ألف صلاة، وفي أفضل حال.
وهي الحج، الذي ليس له جزاء إلا الجنة، فينبغي أن يكون ذلك دافعًا إلى المبادرة إلى التوبة، والتعرض لنفحات الله تعالى ورحماته، واستثمار هذه الفضائل فيما يقرب إلى الله تعالى وتستجلب به محبته ورضاه.
ومما يشرع في هذه الأيام: الصيام، فيسن للمسلم أن يصوم تسع ذي الحجة كما كان النبي يصومها، فقد ثبت من حديث حفصة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر"[5].
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على العمل الصالح فيها، والصيام من أفضل الأعمال، كيف وقد قال الله عنه في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به"[6].
وأخرج البخاري ومسلم كذلك عن النبي ، أنه قال: "من صام يومًا في سبيل الله باعد الله بين وجهه وبين النار سبعين خريفًا". الله أكبر! ما أعظمه من أجر، وأجزله من ثواب! صيام يوم واحد ابتغاء وجه الله تعالى لا رياء فيه ولا سمعة ولا طلبًا لعرض دنيوي، يباعد الله به بين صاحبه وبين النار مسيرة سبعين عامًا!! فما بالكم بمن يصوم تسع ذي الحجة، هذه الأيام التي خصصت بمزيد من الشرف والكرامة.
وإن عجزت -أيها المسلم- أو ضعفت همتك عن صيام التسعة كلها، فلا تعجز عن صيام ثلاثة أيام منها من أوَّلها أو وسطها أو آخرها، متفرقة أو متوالية، فإن صيام ثلاثة أيام من كل شهر سنة متبعة، فإذا كنت تحرم صيامها في كل شهر.
فلا تترك صيامها في هذا الشهر الكريم، وبخاصة في العشر الأول منه، وإن ضعفت همتك عن هذا، أو شغلت عنه، فإياك أن يفوتك صيام يوم عرفة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن صيامه: "أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والسنة القابلة"[7].
وهذا إنما يستحب لغير الحاج، أما الحاج فلا يشرع له صيامه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصمه في حجه، بل روي عنه النهي عن صيام يوم عرفة بعرفة، وحتى يتقوى بالفطر على الذكر والدعاء في ذلك اليوم العظيم.
وأعظم ما ينبغي فعله في هذه الأيام: الذكر بجميع أنواعه من تكبير وتسبيح وتهليل وتحميد ودعاء واستغفار وقراءة قرآن؛ لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]. فنص على الذكر دون غيره، ولقول النبي : "فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد"[8].
وأمر النبي بالإكثار من التهليل والتكبير والتحميد دون غيرها من العبادات، دليل على أنها من آكد العبادات والشعائر في هذه الأيام العشر.
وقد أدرك ذلك سلف الأمة، فكانوا يلهجون بذكر الله منذ دخول العشر، ويعلنون ذلك في بيوتهم ومساجدهم وأسواقهم وأماكن أعمالهم، ويذكرون الله على كل أحوالهم.
وقد جاء في صحيح البخاري: "وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما". وفيه أيضًا: "وكان عمر -رضى الله عنه- يكبِّر في قبته بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق، حتى ترتج منى تكبيرًا". والآثار في هذا الباب كثيرة.
والإكثار من التكبير، والجهر به من الشعائر التي يشابه بها المقيمون حجاج بيت الله الحرام.
وقد أصبح التكبير في هذا الزمن من السنن المهجورة، ولا سيما في أول العشر فلا تكاد تسمعه إلا من القليل، فحريٌّ بالمسلمين أن يحيوا هذه السنة فيفوزوا بأجر العمل، وأجر إحياء سنة تكاد تندثر.
وأما صفة التكبير، فليس له صفة خاصة يجب الالتزام بها، والأمر في ذلك واسع، والمقصود هو كثرة التكبير على أي صفة مشروعة.
وقد ورد عن السلف صفات متعددة، والمنقول عن أكثرهم أنهم كانوا يقولون: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. وعن بعضهم: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. وعن بعضهم: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
وإضافةً إلى التكبير المطلق الذي يبتدئ من أول ذي الحجة إلى غروب الشمس من اليوم الثالث عشر، فإنه يشرع كذلك التكبير المقيد بأدبار الصلوات بعد السلام، وهو يبتدئ بالنسبة لغير الحجاج من فجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق. وبالنسبة للحجاج من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق. وهذا هو أصح الأقوال الذي عليه جمهور السلف والفقهاء قديمًا وحديثًا.
وظاهر النصوص: أن التكبير المقيد شامل للمقيم والمسافر، والجماعة والمنفرد، والصلاة المفروضة والنافلة. والمسبوق ببعض الصلاة يكبر إذا فرغ من قضاء ما فاته؛ لأن التكبير ذكر مشروع بعد السلام. ويشرع في التكبير بعد الاستغفار والتبريك والتهليل.
ومن خصائص هذه الأيام العشر: أنها موسم الحج، الذي هو عبادة من أجلّ العبادات، وأحد أركان الإسلام، وقواعده العظام، وهو من أفضل ما يعمل في هذه الأيام، قال الله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة"[9]. وبيَّن -عليه الصلاة والسلام- أن الحج المقبول ليس لصاحبه جزاء إلا الجنة، فقال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"[10].
والحج ركن من أركان الإسلام, وهو واجب في العمر مرة على كل مسلم بالغ عاقل مستطيع للحج ببدنه وماله. فإن كان ذا مال, ولكنه عاجز عن الحج بنفسه بسبب كبر سنة, أو مرضه الذي لا يرجى برؤه, فإنه يجب عليه أن يوكل من يحج عنه. وإن كان عجزه يرجى زواله كالمرض الطارئ, فإنه ينتظر حتى يشفى منه ثم يحج. فإن مات قبل تمكنه, حج عنه من تركته.
والواجب على المسلم: المبادرة إلى الحج عند توفر شروطه فيهن؛ لقول النبي : "تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له". رواه أحمد وغيره، وصححه الألباني. وصح عن عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- أنه قال: "من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهوديًّا أو نصرانيًّا". وهو وإن كان موقوفًا على عمر, فإنه في حكم المرفوع؛ لأن عمر لا يجزم بمثل هذا من قبل نفسه.
ومما يجدر التنبيه إليه أنه إذا دخل عشر ذي الحجة وأراد المسلم أن يضحي, فإنه لا يجوز له أن يأخذ من شعره ولا أظافره ولا بشرته شيئًا؛ لقول النبي : "من كان له ذبح يذبحه, فإذا أهل هلال ذي الحجة, فلا يأخذ من شعره ولا من أظافره شيئًا حتى يضحي". وفي حديث آخر: "فليمسك عن شعره وأظافره حتى يضحي"[11]. فهذا أمر يدل على الوجوب, وذاك نهي يفيد التحريم, ولا صارف لهما.
لكن لو تعمد وأخذ, فعليه أن يستغفر الله, ولا فدية عليه, وأجر الأضحية كامل إن شاء الله.
كما أنه لا حرج في غسل الرأس وفركه بالشامبو ونحوه للرجل والمرأة, ولكن لا يتعمد إسقاط الشعر؛ لأن النبي إنما نهى عن الأخذ, ولم ينه عن الغسل ونحوه.
والحكمة من النهي عن الأخذ: أنه لما كان المضحي مشابهًا للمحرم في بعض أعمال النسك, وهو التقرب إلى الله بذبح القربان, أعطي بعض أحكامه.
ثم إن هذا النهي ظاهره: أنه يخص صاحب الأضحية, ولا يعم الزوجة والأولاد المضحى عنهم, إلا إذا كان لأحدهم أضحية تخصه, ولأن النبي كان يضحي عن آل محمد ولم ينقل عنه أنه نهاهم عن الأخذ.
نسأل الله أن يوفقنا للمسارعة إلى الخيرات, واغتنام فضائل الأوقات, وأن يعمنا بواسع الرحمات، إنه سميع مجيب الدعوات.
[1] رواه البخاري وغيره.
[2] رواه أحمد بسند صحيح.
[3] أخرجه البخاري.
[4] متفق عليه.
[5] أخرجه أبو داود وأحمد والبيهقي وصححه الألباني.
[6] أخرجه البخاري ومسلم.
[7] أخرجه مسلم.
[8] رواه أحمد بإسناد صحيح.
[9] حديث صحيح رواه الترمذي والنسائي.
[10] متفق عليه.
[11] أخرجهما الإمام مسلم.
الكاتب: عبد العزيز الفوزان
المصدر: موقع صحيفة المسك